الأربعاء 1 مايو 2024 / 08:50

الأذان السادس وأجراس الضمير في جامعات أمريكا

صلاح البلك- صحيفة الوطن المصرية

لا يؤذَّن للصلاة المكتوبة سوى خمس مرات يومياً، كما لا تقرع الأجراس سوى أيام الآحاد وفي الأعياد.

هكذا جرت العادة واقتضت فروض العبادة في بلادنا، وكلاهما يأتيانك سماعاً حين يطلقهما مَن أذَّن أو مَن قرع الجرس.. غير أن الأذان السادس والجرس المدوي اللذين انطلقا في بلاد العم سام وغيرها من الدول حول العالم انطلقا من ضمائر تنبض بالحياة وتغرقها بالإنسانية، تعي ووعيها يهز الكون حين تنطلق الحناجر منادية بالحرية لفلسطين ووقف فوري للقتال في غزة.
لم تعرف الشعوب المتحضرة الصمت على الحق حين تدركه أبصارها، كما لم نعرف نحن التضامن مع غيرنا من شعوب الأرض، هم يدركون معنى استمرار الإبادة على يد نظام عنصري يحظى بالدعم المطلق من حكومات بلادهم ويعلمون أنه يهدم الصورة الذهنية لهم وللأجيال القادمة ويحولهم إلى شركاء في «جريمة القرن» ولو بمجرد الصمت وهو ما يأبونه على أنفسهم ويرفضون المشاركة فيه.
نحن أمام جيل مختلف يحمل بشارات التغيير الحتمي في العالم ويتمتع بالقدرة على الحكم على الأمور بتجرد ودون انحياز، والأهم أنهم لا يتأثرون بآليات الدعاية الموجهة ويعتمدون على أنفسهم في متابعة ما يجري في العالم وتحديد صاحب الحق من المغتصب.. المجرم من الضحية.
هذا جيل مذهل يتشارك فيه كل أصحاب الرأي ويتوافقون طبقاً للقيم الإنسانية والحضارية والموروث القيمي للبشرية منذ بدء الخليقة، بلا انحيازات مطلقة، وفقاً للشراكة في الدين أو العرق، كما أنهم لا يخشون مواجهة حكومات وهيئات نيابية منحازة لغير الحق بل متجنية ومتغاضية عن جرائم حرب ترتكب ضد الإنسانية بل يتمادون في تجاهل ناخبيهم ويحاولون مصادرة حقوقهم في التعبير عن الرأي.
طلاب الجامعات في أرجاء المعمورة يقودون حراكاً سيغير وجه العالم، من كل الجنسيات والأديان يساندهم عدد لا بأس به من أساتذتهم.. جميعهم لا يرضيهم مسارات حكوماتهم ومؤسساتهم التعليمية الراقية التي تورطت عبر السنين في مذابح ومقابر جماعية لم يسبق لها مثيل عبر تاريخ البشر، يرفضون وبإصرار أن يكون حضورهم صامتاً عاجزاً عن وقف سيل الدماء وقتل الأطفال والنساء، يواصلون الضغط بكل أشكال التعبير المتاحة عن الوجه الحقيقي للإنسانية وإن أبى أهل الحكم والسياسة الذين لا يرون سوى حتمية الاستمرار في مناصبهم التي يدينون بها لجماعات الضغط الصهيوني.
اليهود المناهضون للصهيونية كانوا حاضرين وبقوة في مشهد يؤكد أننا بصدد قضية إجماع يعاد بموجبها تشكيل محددات الحراك الشعبي ومصادر إلهامه المنطلقة من مجمل التجارب الإنسانية تعيد اختبار مدى قدرة مجتمع النخبة على التأثير في قرارات الدولة الأقوى في العالم وكل الحلفاء في أوروبا مركز الغنى والتحضر.
صحيح أن الاحتجاجات على الحرب الفيتنامية كانت هي الأقوى والأكثر تأثيراً في ستينات القرن الماضي إلا أن التاريخ يسجل عشرات الوقائع التي كان للاحتجاجات الطلابية الأثر الأكبر فيها، سواء في نتائج انتخابات الرئاسة الأمريكية أو مجمل التوجهات السياسية من قضايا بعينها.
هذه المرة أجّج استدعاء الشرطة في جامعة كولومبيا المظاهرات ووسّع من نطاق المواجهات ولم يمر الأمر بعد اعتقال المئات ولم يفلح الخطاب المتعلق بمعاداة السامية في ردع الطلبة الذين سيقودون الولايات المتحدة مستقبلاً، ولعلها المرة الأولى التي تحظى فيه قضية بمثل هذا الإجماع الذي تشهده معظم الجامعات هناك في ظل تمثيل كل قطاعات المجتمع الأمريكي.
المبالغة في توقع النتائج لهذا الحراك غير قائمة في ظل الإصرار الإسرائيلي على اجتياح رفح والمماطلة في مواجهة كل محاولات الوصول إلى اتفاق هدنة وعدم الاستجابة لأي ضغوط بحكم الدوافع الإنسانية أو حتى المال الأمريكي السخي الذي يمول العدوان ويؤرق ضمائر كثيرة في أوساط المحتجين بخلاف من يرون أنهم أولى بأموالهم من المتطرفين في إسرائيل.
المسؤولية أمام الأجيال القادمة هي الفكرة السائدة لدى هؤلاء المحتجين والتي امتدت لتشمل جامعات أخرى في كل أنحاء العالم، ولعل الفائدة الكبرى تتركز في وصول صورة مغايرة للعرب والمسلمين قد تقضي على الإسلاموفوبيا التي سادت طويلاً، والمؤسف أن يحدث ذلك دون أن يكون لنا دور يذكر في صناعة هذا الوعي والذي لا يزال دور وسائل الإعلام العربية فيه شبه منعدم.. هو انتصار مجاني صنعته الصدفة والضمير الإنساني ووعي من يرتادون دور العلم ويخشون ما سيكتبه التاريخ عنهم.